سورة الأعراف - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)}.
التفسير:
وقع الحكم بالإدانة على المجرم. فلم يستسلم، ولم يتقبل الأمر بالهبوط على إطلاقه هكذا! فطلب من اللّه سبحانه أن ينظره أي يؤخر هلاكه إلى نهاية الحياة الإنسانية على هذه الأرض، ليكون في صحبة الإنسان.
بتحدّاه، وينتقم منه، إذ كان سببا في هذه اللعنة التي وقعت عليه.
ولقد سوّلت لهذا الرجيم نفسه أن يتحدى اللّه بهذه التجربة التي بينه وبين الإنسان، والتي قدّر أنه سينتصر فيها على الإنسان، ويقيم من ذلك حجة على اللّه في امتناعه عن السجود لآدم، لأنه خير منه، وأن بيده سلطانا متمكنا عليه، حين يأمره فيطيع، ويدعوه إلى الإثم فيجيب، وبهذا تنكشف التجربة عن كائن بشرى يتمرغ في الوحل والطين، متمردا على اللّه محاربا له!.. لا يستحق من اللّه هذا التكريم، وسجود الملائكة له.
وهذا موقف يدعو الإنسان أن ينتصر فيه لنفسه، وأن يجزى إبليس، ويتحدّى سفاهته، ويقف منه موقف العدوّ لعدوّه، في ميدان القتال.
{قال أنظرنى إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين قال فبما أغويتنى لأقعدن لهم صراطك المستقيم} إن هذا اللعين يتحدى اللّه، ويثأر لنفسه في شخص هذا الإنسان الذي أراده اللّه ليكون خليفته في أرضه، فيفسد عليه أمره، ويشوّه وجه خلافته.
وها هو ذا يقعد على صراط اللّه المستقيم، الذي أقام اللّه الإنسان عليه، ثم يترصد الإنسان، وبنحرف به عن سواء السبيل.
{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ}.
هكذا يتربص الشيطان بالإنسان، يلقاه في كل وجه، ويأتيه من كل طريق، ويدخل عليه من كل باب، ليضله عن سبيل اللّه، فيشرك بربه، ويكفر به، ويتخذ الشيطان وليا له من دونه.
{قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً}.
المذءوم: المطرود، والمذموم، والمعيب، يقال: ذأمه يذأمه ذآما، وذأما، إذا عابه.
والمدحور: المنهزم المغلوب.
{لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ}.
اللام هنا في {لمن تبعك} موطئة للقسم، و{لأملأن جهنم منكم أجمعين} جواب القسم.
وفى هذا استخفاف بأمر الشيطان، وبما معه من كيد وغواية، كما يقول اللّه سبحانه: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً} بالإضافة إلى ما مع الإنسان من عقل، وعزم.. فمن أعطى الشيطان زمامه، واتخذه وليا، فهو من حزب الشيطان، يضاف إليه، ويصير إلى المصير الذي هو صائر إليه، وهو بهذا غير جدير بأن يكون في ضيافة اللّه، ومن حزب اللّه.


{وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25)}.
التفسير:
وفى مواجهة إبليس، وفى مقابل تحدّيه للّه في شخص آدم- يدعو اللّه آدم إلى أن يسكن في تلك الجنة التي هو فيها، وهى جنة أرضية كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
وفى الجنة رزق موفور وخير كثير.. ولآدم وزوجه أن يأكلا من كل فاكهة فيها، إلا تلك الشجرة التي أشار اللّه سبحانه إليها، ونهاهما عن الأكل منها.
ولم تكن هذه الشجرة إلا واحدة من أشجار الجنة، ولم يكن النهى عن الأكل منها إلا ابتلاء لآدم وزوجه، وإلا تحريكا لأشواقه إليها، وإلا تعجيلا بإظهار إرادته، وترددها بين امتثال أمر اللّه وعصيانه.
وفى هذا الموقف الذي يتأرجح فيه آدم بين الإقدام والإحجام، تجيئه دفعة مغرية بيد الشيطان، تدفعه إلى الخروج عن أمر ربه، فيأكل من الشجرة التي نهى عن الاقتراب منها!! وهنا يبدأ آدم وزوجه يعرفان أن لهما إرادة، وأنهما قادران بتلك الإرادة على أن يتصرفا كيف يشاءان، ولو كان في ذلك عصيان ربهما.
ومن هنا يولد آدم ميلادا جديدا.. فإذا هو الإنسان العاقل، المدرك، المريد.
وإذ يفتح هذا المولود الجديد عينيه على الوجود، يرى كل شيء على غير ما كان يراه من قبل.
وها هو ذا يرى أنه عريان لا يستره شيء كسائر الحيوان، فيخجل من نفسه، ويرى سوأته- وكأنه يراها لأول مرة- فيحاول سترها بما يقع ليده.
وليس بين يديه، ولا في ملك قدرته إلا ورق الشجر، فيتخذ منه ساترا يستر به سوأته- تماما كما يفعل الإنسان البدائى، الذي لم يخرج من عالم الغابة أو الجنة التي هى كل دنياه! ونقرأ الآيات: {فوسوس لهما الشيطان ليبدى لهما ما وورى عنهما من سوآتهما وقال ما نها كما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين}.
فالملائكة عالم لا يعرف الشر، بل قل إنه لا يعرف الخير أيضا.. فمن لا يعرف الشر لا يعرف الخير.
وإلى اللحظة التي لم يأكل فيها آدم من الشجرة كان أشبه بالملائكة، لا يعرف خيرا ولا شرا.. أما إبليس فقد عرف الشر وواقع المعصية، وبهذا خرج من عالم الملائكة، وكان عليه أن يضم آدم إلى عالمه هذا الذي تحول إليه.
ولا يتم هذا إلا إذا كانت لآدم إرادة تعمل في مواجهة الإرادة الإلهية.
{وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ} أي أقسم لهما أنه ناصح، لا يبغى إلا الخير لهم.. وهكذا كل منافق، يتكثّر من الحلف، ولو لم يشك فيه أحد.. إنه يشعر بما في قلبه، وما على لسانه، من كذب وزور، فيحاول جاهدا أن يؤكده ويقويه بالأيمان.
وفى قوله تعالى: {وَقاسَمَهُما} إشارة إلى تنازع الأقسام بينه وبينهما، وكأنّ في سكوتهما عنه قسما منهما باتهامه والحذر منه، ولهذا صح أن تكون المقاسمة شركة بينهما وبينه.
{فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ}.
دلّاهما أي أنزلهما من مرتبهما، التي كانا فيها على السلامة والبراءة، إلى حيث كانت منهما مواقعة الخطيئة وارتكاب المعصية.. والتدلية: السقوط من عل، يقال: دلّى الدلو وأدلاه إذا ألقى به في البئر.
والغرور: الخديعة والاحتيال.. والباء في قوله تعالى: {بِغُرُورٍ} باء الاستعانة أي أنزلهما مستعينا بالتغرير والخديعة.
والسوأة: العورة، وما يسوء الإنسان أن يطلع عليه أحد.
وفى قوله تعالى: {وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} إشارة إلى موالاة الخصف من ورق الشجر.. والخصف جمع الشيء إلى الشيء، وخياطته به.
{قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} ذلك هو جوابهما واعتذارهما، لما كان منهما.. إنهما ظلما أنفسهما بما فرط منهما بارتكاب المعصية، والخروج عن أمر ربهما، فهما في معرض الهلاك والخسران، إن لم يغفر لهما ربهما ويرحمهما.
والخطيئة التي وقع فيها آدم هى التي اكتمل بها وجوده كإنسان، ولو لا هذه الخطيئة لظل- كما قلنا- في عالم الحيوان، الذي هو ليس أهلا للتكليف وحمل الأمانة.
ولعل هذا المعنى هو ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا} [72: الأحزاب] وهذا الوصف للإنسان بأنه ظلوم جهول، يلتقى مع قول آدم فيما ذكره اللّه تعالى عنه: {رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا} فقد ظلم آدم نفسه، وظلم ذريته معه بحمل هذه الأمانة التي أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها.
وأحب أن أفهم قول الرسول الكريم: «كل ابن آدم خطّاء» فهما متسقا مع هذا المعنى الذي أشرنا إليه، وهو أن لإنسان خلق خلقا مشوبا بالمعصية والخطيئة.. هكذا أراد اللّه له، وهكذا خلقه.
فالمعصية من آدم لم تلبسه ثوب للعنة، هو وذريته- كما تقول بذلك بعض الديانات- وإنما ألبسته لباس الإنسان، الذي أراده اللّه، ليكون خليفة له في الأرض.
ولقد عرف الملائكة- بما أخبرهم اللّه- أن الإنسان سيكون على هذا الخلق الذي يجتمع فيه الخير والشر، والطاعة والمعصية.. عرفوا هذا قبل أن يخلق آدم، وذلك حين قال اللّه تعالى لهم: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ}.
قوله تعالى: {قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ}.
وقد هبط إبليس من قبل، هذا الهبوط المعنوي، حين نزل عن رتبته في العالم العلوي إلى هذا العالم السفلى.. فلما عصى آدم ربه ألحق بإبليس في أن عوقب على هذه المعصية بخروجه من عالمه الذي كان فيه.. فخرج من عالم اللاشعور إلى عالم الوعى والشعور، وهو عالم امتحان وابتلاء.
ولكن شتان بين هبوط آدم، وهبوط إبليس، فهبوط آدم، في حقيقته صعود، ولكنه صعود يحمّله أعباء ثقالا، تبهظه، وتنقض ظهره.. إنه يحمل بهذا الهبوط- أو هذا الصعود- أمانة عرضت على السموات والأرض والجبال {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا}.
أما هبوط إبليس فهو هبوط مطلق إلى عالم الإثم والمعصية، لا يتحول عنه أبدا.
والمستقر والمتاع إلى حين: هو الحياة الإنسانية على هذه الأرض إلى أن ينفخ في الصور، ويقوم الناس لرب العالمين.. وقد بيّن هذا قوله تعالى: بعد ذلك: {قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ}.
فعلى هذه الأرض يحيا آدم وأبناؤه، وفى هذه الأرض يموت ويدفن آدم وذريته، ومن هذه الأرض يبعث الموتى، ويعرضون على رب العالمين.. للحساب والجزاء.


{يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)}.
التفسير:
وإذ هبط الإنسان أو قل صعد، وأخذ مكانه على هذه لأرض، فقد كان عليه أن يتعرف على الدستور الذي يسوس به خلافة اللّه في الأرض.
وها هو ذا يتلقى من السماء المواد الأولى لهذا الدستور.
1- {يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ، لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.
فأول ما ينظر فيه هذا الخليفة، هو أن ينظر إلى نفسه، وأن يخرج من عالم الحيوان العاري، إلى هذا الإنسان الذي ينبغى أن يبدأ بستر عورته أولا، ثم يتجمل بما يقدر عليه مما بين يديه، من هذا الخير الكثير الذي بثّه اللّه في الأرض.. ثانيا.
وإذن فعلى الإنسان أن ينسج له من خيوط هذه الموجودات المبثوثة في الأرض، حياة غير حياة الحيوان، وأن يصنع بعقله وبيده وجودا كريما، وبهذا يحق له أن يجلس على كرسى الخلافة، ويمسك بيده، زمام الكائنات التي تعيش معه.
والريشهو الزينة، وكذلك الرياش، وهو شيء إضافى، فوق الحاجة الضرورية، ولهذا جاء بعد اللباس الساتر للعورة.. فهو مأخوذ من الريش الذي يكسو الطائر ويزينه.
ثم بعد أن يأخذ الإنسان لجسده ما يستره ويجمّله، عليه أن يحصّل لكيانه الداخلى، من المشاعر والأحاسيس والوجدانات والمدركات- ما يستره ويجمّله، وذلك هو لباس التقوى، وهو خير لباس يتزيا به الإنسان، ويتجمل.
وفى قوله تعالى: {وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ} إشارة إلى أن هذا اللباس إنما هو مما ينسجه الإنسان من ذات نفسه، إذ لا وجود له في العالم الخارجي، ولهذا لم يعطفه اللّه سبحانه وتعالى على قوله: {أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ} حيث مادة هذا اللباس هى مما يراه الإنسان ويلمسه بحواسه في النبات أو الحيوان، على حين أن مادة التقوى شيء مطوى في ضمير الإنسان، مدسوس في كيانه.
وقوله تعالى: {ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ} لإشارة هنا إلى هذه النعم التي يجمّل بها الإنسان وجوده الخارجي ولداخلى، أي الجسدى والروحي معا، وهذه النعم هى من الآيات الدالة على قدرة اللّه، الناطقة بجلاله وعظمته.. بها يصبح الإنسان إنسانا كريما على اللّه، عظيما في الناس.
وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} في العدول عن الخطاب من لعلكم تذكرون إلى الغيبة {لعلهم يذّكرون} إشارة إلى ما في الناس من غفلة، وأنهم وهم بمحضر من هذا المعرض الذي تعرض فيه آيات اللّه، وتتحدث فيه نعمه- هم غافلون، لا تصفى منهم الأفئدة، ولا تستيقظ منهم العقول. فلعلّ هؤلاء النائمون يستيقظون، ولعل هؤلاء الغافلون ينتبهون..!
2- والمادة الثانية من مواد هذا الدستور، هى أن يحذر أبناء آدم هذا العدوّ المبين المتربص بهم، وأن يكونوا على يقظة دائمة من أباطيله وضلالاته التي يغريهم بها، ويزينها لهم، ليفتنهم في دينهم، وليخرجهم من الإيمان باللّه والاستقامة على طاعته، إلى الشرك به، والتعدّى على حرماته، فيعيد معهم سيرته مع أبويهم اللذين أخرجهما من الجنة، بما زين لهما من ضلال، وبما أغراهما من غرور. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ.. الآية}.
وفى قوله تعالى: {إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} تحذير بعد تحذير، من وساوس الشيطان ومغرياته، وأنه عدوّ خفىّ يرى الإنسان، ويرصد حركاته وسكناته، ويطلع منه على مواطن الضعف، فينفذ إليه منها.
ومن هنا كان خطره داهما، وشره مستطيرا، ومن هنا أيضا كانت حاجة الإنسان إلى اليقظة الدائمة، والمراقبة المستمرة، من هذا العدو الخفىّ المتربص، الذي لا يعرف الإنسان متى يهجم عليه، ويجعل منه صيدا يقع ليده.
وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} إشارة إلى أن الإيمان باللّه هو القلعة التي يتحصن فيها الإنسان من الشيطان، وليس عليه بعد ذلك إلّا إغلاق أبوايها وإحكام غلقها، حتى لا يكون للشيطان سبيل إليه.
أما من لا يؤمن باللّه، فهو شيطان مع الشيطان. لا يريد الشيطان منه أكثر مما هو فيه من فتنة وضلال، وهو بهذا قد سبق الشيطان إلى الغاية التي يريدها منه، ولهذا كان الشيطان وليّه، وهو تابعه.. وهذا ما يكشف عنه قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}.
قوله سبحانه: {وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}.
الخطاب هنا للضالين والمشركين، الذين إذا جاءهم من يدعوهم إلى الهدى أبوا أن يستجيبوا له، واستمسكوا بما هم فيه من ضلال وشرك، وليس بين أيديهم من حجة على هذا الذي هم فيه إلا أن ذلك مما كان عليه آباؤهم، وأنهم على آثارهم مقتدون، وأن ذلك الذي كان عند آبائهم هو مما أمر اللّه به، لأن آباءهم لم يجيئوا بهذا من عند أنفسهم، بل هو مما شرع اللّه لهم.. هكذا يقولون، وهكذا يفترون.. وقد ردّ اللّه عليهم هذا الافتراء بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ.. أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}.
وفى هذا لردّ حكم على ما هم فيه بأنه فاحشة، لا يخفى على عاقل أمرها من السوء والفحش، ومحال على اللّه أن يأمر بالفاحشة.. وإذن فهذا الضلال الذي هم فيه ليس من اللّه قطعا، بحكم العقل، ولو كان هؤلاء على شيء من العقل لما قالوا على اللّه هذا القول المنكر: {وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها}، ولهذا كان هذا الإنكار عليهم والفضح لجهلهم بقوله تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}.
إنهم لا يعلمون ما للّه من جلال وكمال، ولو كانوا يعلمون شيئا من هذا لما نسبوا إلى اللّه الأمر بهذه المنكرات، فإن الكامل لا يصدر منه هذا النقص المعيب.
قوله سبحانه: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} هو بيان لما أمر به من طيب وجميل. فقد أمر اللّه بالقسط، وهو العدل، وإقامة موازين الحق، حتى لا يظلم الناس بعضهم بعضا، ولا يعتدى بعضهم على حق بعض.. الأمر الذي لو استقام عليه الناس لا استقام أمرهم جميعا، ولجرت سفينة الحياة بهم في ريح رخاء.. ومما أمر اللّه سبحانه به بعد هذا، إقامة الصلاة، إذ هى أكثر العبادات توثيقا للصلة بين العبد وربّه. حيث يمكن أن يأتيها كل إنسان.. فقير أو غنى، كبير أو صغير، في أي وقت، وعلى أي حال.. ومن هنا كان من الإمكان أن يكون العبد على صلة دائمة، مع اللّه، بالصّلاة، في الليل والنهار، في السّر والجهر، خاليا مع نفسه، أو منتظما في جماعة.
وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} معطوف على ما قبله: {أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ}.
إذ كان معنى: {أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} أقسطوا.
فصحّ أن يعطف عليه: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}.
أي أفسطوا، وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد.
وإقامة الوجوه عند كل مسجد، إخلاص العبادة للّه، وإقامة الوجوه إليه وحده، دون التفات إلى أحد غيره، وهذا هو الذي يعطى الصلاة ثمرتها المطلوبة منها، إذا هى أقيمت على هذا الوجه، من الولاء للّه، واستحضار القلب لجلاله وعظمته.
وقوله تعالى: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} معطوف على {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}.
والدعاء صلاة، وعبادة، بل هو مخّ العبادة، كما يقول العابدون.. إذ هو التطبيق العملي للإيمان باللّه، والإقرار بالعبودية له، وتعلق الرجاء فيه، والتماس الخير منه وحده، والانقطاع عما سواه.. وهذا هو التوحيد الخالص، والإيمان المصفّى، ولهذا اقترن الدعاء بالصلاة، وجاء بعدها، ليكون التطبيق العملىّ، لما تركت الصلاة في نفس المصلّى من ولاء للّه، وقرب منه.
وقوله سبحانه: {كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} تذكير بالبعث والجزاء والحساب، حتى يعمل الإنسان لهذا اليوم حسابا، وحتى يكون هذا الحساب دافعا قويّا يدفعه إلى العمل.. كما أن في هذا تقريرا للبعث، وأنه أمر ممكن، وإذا وقع في نظر بعض الغافلين أنه مستحيل، فلينظروا إلى المصدر الذي جاءوا منه، وليذكروا أنهم كانوا بعد أن لم يكونوا شيئا، وأن إعادة الكائن إلى ما كان عليه، أيسر- في تقديرنا نحن البشر- من خلق الكائن من العدم.
وقوله سبحانه: {فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} هو بيان للحال التي يعود عليها الناس يوم القيامة، إنهم يعودون فريقين: فريقا هداه اللّه ووفقه للإيمان والعمل الصالح، وفريقا ضلّوا، وأغواهم الشيطان.
{إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}.
وهكذا كل ضالّ، يزيّن له ضلاله الفتنة والغواية، ويريه أنه على الصراط المستقيم، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً؟} [8: فاطر].

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8